رسالة المحاماة

 

لم يخلد فرسان المحاماة إلي الضمانة أو الحصانة التي نصت عليها  المادة‏/309‏ من قانون العقوبات‏,‏ ففيها ثغرة يمكن الدلوف إلي المحامين  منها‏,‏ فاستعاضوا بأب المحاماة الرفيع‏,‏ وفكرها الراقي‏,‏ ومنطقها  الناصع‏,‏ علي إيراد ما يشاءون من حجج وبراهين في موضوعية تقيهم ثأر أو  انتقام من يضايقهم منطق الحق‏,‏ ويضيقون بالعدل والانصاف‏!‏

للمحامين علي مدار تاريخ المحاماة‏,‏ مواقف مبهرة‏,‏ منها ما حفظته  المدونات‏,‏ ومنها ما عاش في ذاكرة المحامين‏,‏ يتناقلونه بالرواية جيلا  بعد جيل‏..‏ صادف المرحوم الأستاذ مكرم عبيد ــ فيما تتناقله الروايات ــ  موقفا بالغ الصعوبة إزاء مدعية إدعت علي موكله أنه إعتدي عليها‏,‏ واغتصبها  كرها‏,‏ ومحاذير السقوط في وهدة القذف شديدة وخطيرة إذا انفلت الدفاع إلي  إبداء أن الواقعة كانت بكامل إرادتها ورضاها‏,‏ فإطلاق ذلك سوف يعوزه  الدليل‏,‏ ولم تكن الواقعة إلا بين اثنين لا ثالث لهما‏,‏ المدعية التي  انتصرت النيابة لقولها‏,‏ وحجتها ــ حسب المجري العادي للأمور ــ غالبة‏,‏  لأن بنت حواء لن تنزلق إلي مثل ذلك مع ما يصاحبه من مساس بسمعتها‏,‏  والمتهم الذي لم تسمع النيابة لدفاعه‏,‏ ولم تصدقه‏,‏ وأخذته بقول  المدعية‏,‏ وقدمته إلي محكمة الجنايات بهذه التهمة الخطيرة التي يمكن أن  تصل عقوبتها إلي الأشغال الشاقة المؤبدة‏!!‏ ماذا يفعل فارس المحاماة مكرم  عبيد إزاء هذا الخطر الداهم‏,‏ ومحاذير السقوط في هاوية جريمة القذف إن بني  دفاعه بغير دليل علي رضاء المدعية؟‏!‏ هنا تجلت ألمعية وفراسة وبديهة  المحامي الفذ‏..‏ فجأ المدعية ومعها هيئة المحكمة بطلب غ
ريب إستهل به حديثه هو مطالبة المدعية بتعويض ما أتلفته من الفراش بصعودها  إليه محتذية حذاءها‏,‏ ومع المفاجأة إنفلت لسان المدعية بالحقيقة‏,‏ فتعجلت  قائلة ــ دون أن تتنبه ــ إنها خلعت حذاءها قبل أن تصعد إلي الفراش‏!!‏  كانت سقطة المدعية مدوية‏,‏ وأثرها مفجرا فاضحا لزيف وكذب إدعائها‏!!‏؟؟  كان يسيرا علي الأديب المفوه مكرم عبيد أن ينهي مرافعته بالقرآن‏,‏ وكان  علي مسيحيته من الحافظين له كثير الإستشهاد به‏..‏ مضي يروي للمحكمة قصة  إمرأة العزيز مع يوسف الصديق‏,‏ حين اتهمته كذبا بأنه أراد بها سوءا‏,‏  وقالت لزوجها العزيز فيما رواه القرآن المجيد‏:‏ واستبقا الباب وقدت قميصه  من دبر وألفيا سيدها لدي الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن  يسجن أو عذاب أليم‏.‏ قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان  قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين‏.‏ وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت  وهو من الصادقين‏.‏ فلما رأي قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن  عظيم‏.‏ يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين‏(‏ يوسف‏25‏  ــ‏29)‏ ومع الجلال الذي شمل الموقف‏,‏ والإنبهار بذكاء وحيلة مكرم‏,‏ صدر  حكم البراءة الذي كان في الواقع ثمرة لعظمة المحامي‏!‏

يقول الكارهون للمحاماة‏,‏ أو المتجنون عليها أو الجاهلون بحقيقة دورها  ورسالتها إن المحامي‏:‏ أجير صناعته الكلام‏..‏ يتساوي لديه أن يدافع عن  الحق أو الباطل مادام يتلقي أجرا‏!!‏

ويقول العارفون المنصفون‏,‏ إن المحامي هو حامل الشعلة التي تبدد غياهب  الشك‏,‏ وتنير الطريق إلي الحق والعدل والإنصاف‏..‏ الذين يتوقفون عند  مدافعة المحامي عن متهم أو متهمين يرونهم أو يراهم المجتمع مذنبين‏,‏ لا  يدركون كم من مظالم يهتز لها عرش السموات لو ساء ظن هؤلاء وأدين بريء علي  ذنب لم تقترفه يداه‏!!‏

لو لا حرية وبراعة الدفاع لضاعت الحقيقة‏,‏ وفشي الظلم بين الناس‏,‏ ولولا  براعة المحاماة لما استطاع المحامون أن يكسروا حاجز الخوف من أن يساءلوا عن  القذف أو إساءة الاعتبار لو ساقوا دفاعهم كما يجب أن يبدي ويقال‏!.‏

أنظر إلي براعة شيه دي استانج حين وقف يترافع عن زميله فيليكس دي  لامارتنيير محامي جريدة لوبوفوار أمام المجلس الوطني‏,‏ وكأنه يفتش عما  قاله المتنبي لسيف الدولة‏:‏ يا أعدل الناس إلا في معاملتي‏..‏ فيك الخصام  وأنت الخصم والحكم‏..‏ كيف يلقي المحامي بهذا المعني إلي المحكمة دون أن  تعدها إهانة أو تطاولا علي مقامها الرفيع‏,‏ فيقع بدوره في وهدة جاء يقيل  زميله فيها‏..‏ لقد وقف المحامي الأديب يقول للمحكمة في منطق ناصع وأدب  رفيع‏:‏ إنني مطالب بأن أثبت لكم ـ أنتم الذين اعتقدتم أن إهانة لحقت بكم  أنتم القضاة والخصوم في هذه الدعوي ـ أن الكاتب حين هاجمكم لم يتجاوز  الدفاع المشروع

في براعة لافتة للمحامي الفرنسي الشهير دورانتو كسر النظام الذي كان معمولا  به أمام برلمان باريس‏..‏ هذا النظام الذي يفرض أن الأفوكاتو العمومي‏(‏  المحامي العام‏)‏ هو آخر من يتكلم باعتباره ممثل الملك‏.‏ ولكن مرافعة  الأفوكاتو العمومي تضمنت ـ في ذلك اليوم‏!‏ ـ ما يستوجب عدالة أن يعقب  عليها الدفاع وإلا اختل السواء والميزان‏,‏ فوقف المحامي دورانتو يريد  التعقيب ولكن المحامي العام انطلق بحدة متغطرسة يقول‏:‏ لا يجوز لأحد أن  يتكلم بعد ممثل الملك‏!‏

المحامي الأريب لا تنفد حيله‏,‏ ولا تنضب قريحته‏,‏ ولا ينعقد لسانه‏..‏  وقف لحظتها دورانتو يرد علي الحدة بحدة‏,‏ وعلي المنطق المتغطرس بمنطق  العدل والإنصاف‏,‏ فطفق يقول‏:‏ إنما يتكلم بعد ممثل الملك إذا شوه الحقيقة  المعروضة للحكم‏.‏ إنما يتكلم بعد رجال الملك إذا أرادوا تحويل قضية مدنية  إلي قضية جنائية‏.‏ إنما يترافع بعد ممثلي الملك عندما يحاولون تسوئ سمعة  إبن سامحه ابوه‏.‏ لم يتهوب المحامي العجوز أن قول للمحامي العام في أبوة  حانية مهذبة‏:‏ أنت لا تزال شابا يا سيدي المحامي العام‏,‏ فاجلس واستمع  لما سأقوله‏.‏

يومها جلس المحامي العام‏,‏ واستمر دورانتو في تعقيبه‏,‏ وانتهت المرافعة  ولكن لم تنته التداعيات التي اتخذت من هذه الواقعة معولا ساعد علي سن قاعدة  أن المتهم ـ أو المدعي عليه ـ هو آخر من يتكلم‏..‏ هذه القاعدة التي تسود  الآن جميع تشريعات المعمورة‏!‏



إذا أعجبك هذا الموضوع وأردت الحصول على كل موضوع جديد فقط أضغط على إشترك الأن ثم إضغط على Subscribe . إشترك الأن!



شارك الموضوع مع أصدقائك فى المواقع المشترك بها:

0 التعليقات:

لو لديك أى سؤال فاكتبه هنا

...

 

Original Look

المتابعون

© 2011. All rights Reserved | المحامى المصرى | Template by المحامى المصرى

الرئيسية إلى الأعلى